يبين هذا البحث ([1]) جانباً من علاقة العلم بالإسلام، وأنه لا تعارض بين الحقائق الإسلامية والحقائق العملية. وقد وضح الباحث في هذا البحث معنى الغيب وأقسامه، وبين المعنى الدقيق لكل مفتح من مفاتحه، وقارنه بما توصل إليه العلم في هذا المجال لإزالة أي التباس، متوصلاً إلى أن المفاتح الخمس داخلة ضمن المستقبل، وأن التحدي بها هو التحدي بالعلم القطعي للمستقبل الذي ليس له قانون ثابت. وقد أجاب هذا البحث عن تساؤل هو:
هل يستطيع الإنسان علم الغيب على ضوء المعطيات التي توصل إليها العلم؟ وهل يتعارض ذلك مع ما في الكتاب والسنة، من أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى؟
وتعرض الباحث ابتداءً لمعنى الغيب حيث قام بتعريفه لغة واصطلاحاً، مبيناً أنه ما لا تدركه الحواس بشكل مباشر أو غير مباشر، ثم بين أقسام الغيب، حيث قسمه إلى أقسام من عدة اعتبارات هي:
1- من حيث الزمان وهو على ثلاثة أقسام هي : الماضي، والحاضر، والمستقبل.
2- من حيث إمكان علم الإنسان به وهو على قسمين : قسم يمكن للإنسان معرفته، وقسم لا يمكن له أن يعرفه.
3- من حيث ثبوته وهو قسمان هما:
أ- غيب قطعي الثبوت.
ب-غيب ظني الثبوت.
ووضح الباحث المقصود بالمفاتح وبين أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
1- أن مفاتح جمع مفتح مَفْتِحَ الميم وكسر التاء كمخزن، وعلى هذا فمعنى مفاتح الغيب خزائنه التي لا يعلم ما فيها إلا الله.
2- أن مفاتح جمع مِفْتَح بكسر الميم وفتح التاء وهو الآلة التي يفتح بها، أي الأدوات والوسائل التي توصل إلى علم الغيب.
3- أن مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم والتاء كمذهب، والمعنى أن الله عنده وحده فتوح الغيب.
وأما المقصود بها في الآيات السابقة فتعددت الآراء في ذلك، ولكنها لم تتعارض ويكمل بعضها بعضاً، وذكر أن كلاً منها على سبيل المثال وما يناسب الحال، ولا شك أن الحديث الوارد خير تفسير للآية، وهي خمس على سبيل الحصر وكل منها يشير إلى معنى واسع من الغيب، فالأرحام تشير إلى واقع النفس، والمطر إلى أمور العالم العلوي، والموت إلى أمور العالم السفلي أو إلى عالم المكان، وما في غدٍ يشير إلى عالم الزمان، والساعة تشير إلى عالم الآخرة.
وفصل الباحث بعد ذلك في الأمور الخمسة وملخصه على النحو التالي:
أولاً: الأرحام، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، وقد نبه الباحث إلى أنه بسبب التقدم العلمي أصبح بمقدور العلماء في كثير من الحالات معرفة جنس الجنين وهو في الرحم، وحالاته من التشوه وعدمه، فهل هذا يعني إمكان علم الإنسان ما تغيض الأرحام؟ وأجاب على ذلك أن رأي العلماء انقسم في هذا إلى ما يلي:
1- ما في الأرحام غيب لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه من خلقه، ومقتضاه أن الإنسان لا يعلمه لانقطاع الوحي.
2- أن علم ما في الأرحام غير خاص بالله، والدليل عليه اختلاف الصيغة في الآية، ففي الساعة أفاد الحصر أما هنا فلا.
3- أن علم ما في الأرحام خاص بالله سبحانه وتعالى لا يعلمه إلا هو.
ولأجل التوفيق وبيان التحدي لا بد من ملاحظة ما هو المتحدى به بشكل دقيق، فما هو المتحدى به؟
أ- أن المتحدى به ليس في كل مدة الحمل، وإنما في مرحلة معينة من مراحله، وهذا ما يدل عليه كلمة تغيض، فتكون بهذا الفترة المتحدى بها هي فترة غيض البويضة الملقحة، أي انغرازها داخل الرحم قبل تشكل الجنين.
ب- المتحدى به في هذه المرحلة هو العلم وليس الظن والتخمين، والعلم هو اليقين الذي لا يتطرق إليه الشك.
جـ- المتحدى به العلم بكل ما يتعلق بالجنين من صفات، وهذا ما يفهم من الاسم الموصول (ما) الوارد في النصوص.
ثانياً: وما يعلم ما في غدٍ إلا الله، وتساءل الباحث هل النجوم والكواكب والبروج، وقراءة الكف والفنجان، والاتصال بالجن يفيد العلم بالمستقبل؟
وقد عرض الباحث للأمور السابقة، فبين بأسلوب علمي منطقي عدم وجود علاقة بين ما سبق والعلم بالمستقبل، وكيف أنها كلها تدخل تحت أبواب الموافقة، والممكن، والعموميات المتوقع حدوثها، وأن المطلوب هو العلم، وعموم ما يحدث في غدٍ لا بعضه وأن المتحدى به علم المستقبل مما ليس له قانون ثابت.
ثالثاً: ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله - وتساءل الباحث هل المتحدى به هو إنزال الغيث أم العلم بوقت نزوله؟
فرجح الباحث الأول، وإن كان قد ورد التحدي بإنزال الغيث كذلك، والمتحدى به هو العلم، وكل ما توصل إليه العلماء في مجال الأرصاد الجوية إنما هو التوقع والظن، لا القطع.
أما على الاحتمال الثاني فالمطر الصناعي ليس إنزالاً للغيث، وليس كل مطر غيثاً، فالغيث هو الذي يغيث الناس وهذا ليس تنزيلاً لا للغيث ولا للمطر، بل هو عبارة عن تمطير اصطناعي، أي إنزال لشيء موجود فعلاً.
رابعاً: لا تدري نفس بأي أرض تموت، والمتحدي به هو العلم قبل بدء الأسباب المباشرة، علماً أن الإنسان لا يعلم أين يموت علماً يقينياً حتى بعد حدوث الأسباب المباشرة للموت.
خامساً: ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، وقد عرض الباحث لحساب الجمل الذي جاء به اليهود، وفعل رشاد خليفة في العصر الحديث، وبين أن هذا الحساب لا أساس له من الصحة لعدم وجود الدليل على أن لكل حرف قيمة عددية، وأن هذه القيمة هي ما ذكر، وقد أورد الباحث اعتراضات كثيرة على هذا الحساب. وبين أنه في حال ما يعترض معترض على أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأشراط الساعة، وأن هذا دليل على معرفة موعدها، فالجواب هو أن هذه الأشراط دليل على القرب فقط.
وعرض الباحث في النهاية إلى نتائج البحث، وكانت على النحو التالي:
1- أن الله تحدى الناس إلى يوم القيامة بأن يعلموا علماً قطعياً أي واحدة من هذه الخمس المذكورة في الآية بأي وسيلة كانت.
2- أن القاسم المشترك بينها جميعاً هو أنها من المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، إلا أن يكون له قانون ثابت لا يتغير.
3- عدم العلم يقيناً لكل ما يحدث للجنين في الأسابيع الثلاثة الأولى، ولا يعلم ذلك إلا الله.
4- عدم العلم يقيناً لكل ما يحدث في غدٍ مما ليس له قانون ثابت، ولا يعلم ذلك إلا الله.
5- عدم العلم يقيناً متى يأتي المطر، وخاصة قبل تشكل أسبابه، ولا يتحكم في أسباب إنزال الغيث كلها إلا الله.
6- عدم العلم يقيناً أين يموت الإنسان، ومتى يموت، وخاصة قبل الأسباب المباشرة ولا يعلم ذلك إلا الله.
7- لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.
8- أن الله قد أطلع رسله على بعض الغيب إلا الساعة، حيث لم يطلع عليها أحداً حتى الأنبياء والملائكة.