الحمد لله الذي تكفل بحفظ دينه فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[1]، وفي هذا ضمان بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم تبعاً، لأن سنته صلى الله عليه وسلم مبينة ومفسرة لما في القرآن، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).[2].
ومن حفظ الله تعالى لهـذا الدين أن وَفَّق للحديث النبوي حُفَّاظاً عارفين، وجهابذةً عالمين، وصيارفةً ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المُبْطلين، وتأويل الجاهلين، فتفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، فحققوا كل لفظة، وفحصوا كل حرف وكلمة، وميزوا الصحيح من السقيم، وبينوا حال كل ناقل من رواة الأخبار.
وقد وصف ابن حبان ما قاموا به فقال: ( أمعنوا في الحفظ، وأكثروا في الكتابة، وأفرطوا في الرحلة، وواظبوا على السنن والمذاكرة، والتصنيف والمدارسة، حتى أن أحدهم لو سئل عن عدد الأحرف في السنن لكل سنة منها عدها عداً، ولو زيد فيها ألف أو واو لأخرجها طوعاً ولأظهرها ديانة، ولولاهم لدرست الآثار واضمحلت الأخبار، وعلا أهل الضلالة والهوى، وارتفع أهل البدع والعمى، فهم لأهل البدع قامعون بالسنن شأنهم جامعون دامغون … )[3]
فإذا تبين أن هؤلاء الأئمة النقاد قد اختصوا بتمييز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيين صحيحه من سقيمه فلا يحق لمن ليس من أهل هذا العلم أن ينازع أهله شأنهم، وأن يتكلم في فنهم .
وقد أكد العلماء على هذا المعنى وخير من جلّى هذا الأمر فنبه إليه وأكد عليه ابن الوزير اليماني الذي قال: ( فإذا عرفت أن المرجع بالمعرفة التامة في الفنون العلمية إلى أهلها المختصين بمعرفتها، المنقطعين في تحقيقها، المستغرقين في تجويدها، المشغولين بها عن غيرها، المصنفين فيها الكتب الحافلة، والتواليف الممتعة، وكذلك فتحقق أيضاً أن المرجع في معرفة الحديث صحيحه وموضوعه، وموصوله ومقطوعه، وموقوفه ومرفوعه، ومدرجه ومعضله، ومسنده ومرسله، ومقلوبه ومعَلَّلِه، ومضطرِباته وبلاغاته، وشواهده ومتابعاته ، وتواريخ رجاله وأحوالهم، والكلام في جرحهم وتعديلهم وتضعيفهم وتليينهم ، إلى غير ذلك من علومه الغزيرة، وفوائده العزيزة هو إلى علماء الحديث الذين قطعوا أعمارهم في الرحلة إلى أقطار الدنيا لجمع شوارده، ولقاء مشايخه حتى أخذ الواحد منهم عن ألوف من الشيوخ ، وبلغ الحافظ منهم ما لا تكاد تحتمله العقول )[4]
والناظر في كلام أهل العلم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً يجد أن منهم من تكلم في هذا العلم بغير طريقة أهله، وسلك فيه مسلكاً لم يرضه أصحابه، فصحح وضعف بغير طريقة المحدثين، والله المستعان.
ورحم الله ابن حزم الذي قال: (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويظنون أنهم مصلحون)[5].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - سورة الحجر : آية (9)
[2] - سورة النحل : آية (44)
[3] - مقدمة كتاب المجروحين ص:(57_58(
[4] - العواصم والقواصم 2/431
[5] - الأخلاق والسير في مداواة النفوس ص: 23