تناول الباحث مسألة سماع الميت؛ من أجل بيان توافق الكتاب والسنة، ودفع ما يوهم التعارض الظاهري بين بعض الآيات من جهة وبعض نصوص السنة من جهة أخرى، فقد ثبت في جملة من الأحاديث الصحيحة أن الميت يسمع وهو في قبره كلام الأحياء، وقد استشكلت السيدة عائشة أم المؤمنين، ما بلغها من ذلك من رواية ابن عمر، واستشهدت بقوله تعالى: على عدم سماع الأموات، ونسبت ابن عمر للوهم في روايته. وقد تابعها على ذلك طائفة من أهل العلم، وخالفهم في ذلك الأكثرون، وقد عمد الباحث إلى بيان الصواب في هذه المسألة حيث انتظم عقد البحث في أربعة مطالب، وجاء المطلب الأول بعنوان ذكر الخبر الذي فيه استدراك عائشة رضي الله عنها، وقد عرض الباحث فيه طرق الحديث، وبين أن الزركشي ذكره في كتابه الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، حيث كان وجه استشكالها أن إثبات سماع الميت يعارض ظاهر القرآن الذي ينفي السماع عن الموتى الذين هم سكان القبور، ولهذا استدلت عائشة بالقرآن على خطأ في السمع في نظرها.
وأما المطلب الثاني: فكان في ذكر من وافق ابن عمر في روايته. وقد بين الباحث في البداية أن رواية ابن عمر تعتبر من قبيل مرسل الصحابي، وهو مقبول عند أهل الاصطلاح، وأن هناك خمسة من الصحابة غيره رووا الحديث، أربعة منهم شهدوا الواقعة، وهم عمر بن الخطاب، وأبو طلحة الأنصاري، وابن مسعود، وعبد الله بن سيدان، أما الخامس الذي لم يشهدها فكان أنس بن مالك t.
وأما المطلب الثالث، فقد جاء الباحث فيه بما يشهد من الأحاديث لرواية ابن عمر، فذكر فيه رواية أنس، والبراء، وأبي هريرة، وجابر التي تثبت أن الميت يسمع قرع النعال، فسماعه لكلام الأحياء من جنس هذا بل هو أولى. ولهذا قال الجمهور إذا جاز أن يسمع وقت الدفن، جاز أن يسمع بعده، لدلالة الأحاديث المشار إليها آنفاً، وقد خالف بعض أهل العلم في ذلك، فبعضهم نفى سماع الميت مطلقاً، وبعضهم أثبته عند الدفن فقط، وبعضهم قال أن الذي يسمع هو روح الميت دون جسده، وبهذا انتظم عقد المطلب الرابع في هذه المسالك الأربعة حيث جاء بعنوان مسالك العلماء في المسألة.
المسلك الأول: مسلك عائشة في نفي السماع مطلقاً، وكانت عائشة قد نسبت الوهم إلى ابن عمر وبيّنت أن الصواب في الرواية "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول حق"، كما احتجت بالآية: ، وكان قد وافقها جماعة من أهل العلم، نقل ذلك الطبري في تهذيب الآثار، وابن رجب في أحوال القبور، وهؤلاء أثبتوا رواية ابن عمر، ولكنهم أولوها بالسماع، وبعضهم أعل الحديث من ناحية المعنى لمخالفته ظاهر الآية.
وبناءاً على أن الأصل الذي ساروا عليه هو رد خبر الواحد المخالف لعموم القرآن، تقديماً منهم للترجيح على مسلك الجمع والتوفيق، ووجه احتجاجهم بالآية أن نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى، يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهم للسماع، وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء، كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميت والأصم، وأما مناقشة هذا الرأي فيمكن إجماله بما يلي:
1- السماع غير مؤول بالعلم، لما ثبت في الحديث من سماع الميت قرع نعال المشيعين.
2- الحديث لا ينافي الآية، لأن المعنى أنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك بل الله يسمعهم، أو إنك لا تسمعهم إسماعاً ينتفعون به بسبب انقطاع العمل.
3- إعلال الحنفية غير مسلم به؛ لظهور عدم معارضة الآية، ثم إن الحديث يصل إلى درجة التواتر المعنوي فلا يسلم بكونه خبر واحد.
المسلك الثاني: الأرواح لا ترجع إلى الأجساد إلى يوم القيامة، والخطاب كان للأموات قبل أن يكون لهم قبور، وأن المنفى عنه السمع غير المثبت له، وأنه لم يأت خبر صحيح في رد أرواح الموتى إلى أجسادهم عند السؤال وقد ذهب إلى هذا الرأي ابن حزم، ذاكراً تعزية ابن عمر لأسماء، وأن الجثث ليست بشيء.
أما مناقشة هذا القول فقد تولاه ابن القيم، وبين أن حياة البرزخ ليست كحياتنا، وأن النص الصحيح (فتعاد روحه إلى جسده) جزء من حديث البراء الصحيح، وبين صحة الحديث مشيراً إلى توثيق المنهال، وأما تعزية ابن عمر لأسماء فكانت من قبيل التخفيف عنها، وأشار الباحث إلى قول ابن حجر، أن ما يجري للميت مثل ما يجري للنائم من شعوره بأشياء لا يعلمها إلا هو، وأن الله صرف من أبصار العباد حتى لا يتدافنوا كما جاء في الحديث .
المسلك الثالث: إحياء الله لهؤلاء الموتى ليسمعوا التوبيخ والتصغير والحسرة، وأنها معجزة للنبي e خاصة، وقال بهذا القول قتاده، ووافقه البيهقي، والسهيلي، والقرطبي، والذهبي، واستشهد السهيلي بقوله (أتخاطب أقواماً قد جيفوا)، ولمناقشة كلام السهيلي هذا، قال الباحث إن هذا يعني عدم تقدم علم الصحابة بسماع الميت كعدم تقدم علمهم في كثير من الأمور، وأما قول قتاده فهو فهم تابعي وليس بحجة.
المسلك الرابع: إثبات السماع للموتى في الجملة، وهو قول الجمهور من علماء الأمة سلفاً وخلفاً، وأن السيدة عائشة في إنكارها لسماع الموتى هو من جنس إنكارها لغيره من الأمور، وهي مجتهدة تصبب وتخطئ، وجاء بأقوال العلماء في المسألة، وأنهم أجابوا بأحد جوابي الطبري، وإن اختلفت العبارة، كالاسماعيلي، وابن قتيبه، وابن تيمية . وبهذا يثبت عدم التعارض بين الكتاب والسنة.. وقول من قال أنه مختص بوقت الدفن ينفيه قوله في الحديث (بعد ثلاث ليال).
الخاتمة:
وفي نهاية البحث ختم الباحث دراسته بالآتي:
1- استشكال عائشة بناءاً على فهمها للآية، وإنكارها من جنس إنكارها لغيره من الأمور ولم يكن الصواب حليفها في ذلك.
2- عدم انفراد ابن عمر بحديث القليب، فقد وافقه خمسة من الصحابة أربعة منهم حضر الواقعة.
3- ثبت من الأحاديث ما يشهد لهذا الحديث، وهو حديث قرع النعال وقد ساق الباحث هذا الحديث عن أربعة من الصحابة.
4- سماع الميت لا يختص بوقت الدفن.
5- مسالك العلماء في المسألة، أربعة مسالك مذكورة آنفاً، والجمهور على المسلك الرابع الذي تشهد له الأحاديث الصحيحة.